الفضاء في قصة عبد النور
4- الفضاء في القصة:
يمكن تعريف الفضاء بما يأتي :
" – الفضاء المكان الواسع .
- الفضاء في القصة هو المسرح الذي تجري فيه الأحداث المحكية .
- هو مجموعة من الأمكنة تشترك في خاصية ما ، تدور فيها أحداث معينة . فالجامعة مثلا فضاء يضم مجموعة من الفصول والمكاتب ؛ أي أمكنة تشترك كلها في وظيفة أساسية هي التعليم ."[1]
ومن ثم ستنصب الدراسة هنا على الفضاء المكاني بمعزل عن مكونات الفضاء القصصي الأخرى ، التي سأتناولها تباعا . فالتجزئ في الدراسة مطلب منهجي وضرورة تحليلية .
توجد ثلاثة أنواع من الفضاءات في هذه القصة:
فضاء صريح، وفضاء ضمني، فضاء مجازي.
الفضاء الصريح هو مجموع الأماكن الواردة في القصة بقسميها والتي يضمّها فضاء البصرة وهي الآتية:
1- الأمكنة في القسم الأول :
*غرفة
*جناح
*الدهليز
*باب الدار
*مصلى
ب- الأمكنة في القسم الثاني :
*بيت الرجل المضيف
*كنيف
*طريق لا ينفذ
*الشارع
*خلاء الجناح
*باب الدار
أما الفضاء الضمني من مثل:
*فضاء الجيران
*الفضاء الذي يمكن أن نستخرجه من مثل:
*"تجمع الجيران حوله" فالفضاء الضمني في هذه الجملة يأخذ شكل دائرة من خلال قوله : "تجمع"، و"حوله".
*"عند" التي تتكرر مرارا.
*فضاء المعارك والتي أشار إليها السارد بالأيام والمقامات وهو فضاء تاريخي مليء بالخيال.
والفضاء المجازي هو الفضاء العقدي الذي لا يمكن رؤيته في الدنيا والإحساس به ووظف في القصة لتفسير ما يمكن رؤيته والإحساس به في الحقيقة، والذي نجده في تعليق عبد النور على أحداث قصته، حينما اكتشف الجيران أمره، في قوله: "إنا لله خرجت من الجنة إلى النار".
فقد استعملت الجنة والنار بمعناهما المجازي للدلالة على وضعيته قبل في القسم الأول من القصة ، والآن في القسم الثاني منها ، فالجنة هي ما كان عليه في مخبإه الأول ، والنار هي ما هو عليه في مخبإه الثاني ، وهذا التعبير الوصفي المجازي لا يكتسب صفة إطلاقية، وإنما هو رهين نفسية القائل والواصف، فبالنسبة لشخص آخر حر طليق فإن كلا المخبأين جحيم ونار، ولكن بالنسبة للمختبئ الخائف من القتل فإن الفضاءات التي كان يكرهها وينفر منها أو يتقزز منها إذا سمع بها، خاصة أنه كان كاتبا وميسورا، فإنها تصير عند الحاجة، والحاجة الماسة إليها، جنة ونعيما إذا أمن على نفسه فيها وحصل على الحماية التي يبتغيها منها.
إذن فالفضاءات والأمكنة إما جنان وإما نيران بالمعنى المجازي وإما أماكن محايدة؛ وهي أماكن الغير التي يزورها الإنسان مؤقتا ويخرج منها، ولا تخرج من حيادها وتكتسب صفة مدحية (كونها كالجنة) أو صفة قدحية (كونها كالنار) إلا إذا أقام فيها المرء إقامة مستمرة.
نلاحظ أن أهم الأمكنة في القصة ذات أسماء (البصرة، شق عبد القيس، شق بني تميم) مما يقنع القارئ بأن القصة حقيقية، يقول هنري ميتران في كتابه "خطاب الرواية": "اسم المكان يؤكد صدق الحكاية (...) فما دام اسم المكان حقيقيا فكل ما يجاوره ويرتبط به فهو حقيقي"[2].
معظم الأمكنة المذكورة في القصة مغلقة، وإن فتحت جزئيا، أحيانا، فداخل إطار الانغلاق العام للفضاء. وهذا راجع، في الغالب، إلى الحالة النفسية للشخصية الرئيسة التي عليها أن تنكمش على نفسها حتى تتجنب معرفتها من قبل الغير.
فانغلاق المكان متعلق بانغلاق الشخصية، وانفتاحه مرتبط بانفتاحها .
المكان الرئيس في هذه القصة هو "المخبأ" أو "الملجأ"، وحينما نقول "ملجأ" فإننا نعني به مكانا مؤقتا، حتى وإن بقي اللاجئ في ملجإه طول عمره. ورغم الحميمية التي قد يشعر بها تجاه هذا المكان، فإنه يبقى في داخل كيانه مكانا مؤقتا، ما دامت الرغبة في تغيير الوضعية التي قادته إلى هذا المكان موجودة.
الأماكن المغلقة ليست الوحيدة في القصة، فهناك أيضا الأماكن المنفتحة وهي كل ماهو خارج الدار التي كان يختبئ بها في القسمين معا، والأماكن المتوسطة بين الانفتاح والانغلاق.
من الأماكن المتوسطة في القصة الجناح الذي يفصل بين ملجإه وبين ما هو خارجه: "وكان في غرفة قدامها جناح، وكان لا يطلع رأسه منها، فلما سكن الطلب شيئا (...) صار يجلس في الجناح" . ومن هذه الأماكن المتوسطة الدهليز:
"فلما لم ير شيئا يريبه، قعد في الدهليز، فلما زاد في الأنس، جلس على باب الدار". ومنها باب "الدار" وهو مكان وسط بين داخل الدار وخارجها، فهو مقدمة نحو الفضاء الخارجي المفتوح ونحو الفضاء الداخلي المغلق.
الباب يمكن أن يكون مفتوحا أو مغلقا، وبين هاتين الحالتين يمكن أن يكون لا مفتوحا كلية ولا مغلقا كلية: "فلما طالت الأيام، صار ينظر من شق باب كان مسمورا، ثم مازال يفتحه الأول فالأول إلى أن صار يخرج رأسه ويبدي وجهه...". ومنها "الكنيف" في القسم الثاني فهو مكان وسط لأنه مرتبط بالدار من جهة وله مخرج على الطريق من جهة أخرى: "وكان للرجل كنيف إلى جانب داره، يشرع في طريق لا ينفذ". الطريق الذي لا ينفذ مكان مفتوح، وكونه لا ينفذ يجعله مرتبطا بفضائه العام المحيط به، وهو فضاء مغلق، ومن ثم فهو فضاء وسط. المصلى مكان مفتوح إلا أنه مؤطّر بشكله الهندسي الذي يعطيه شكل مكان مغلق، ومن ثم فهو مكان وسط.
أما وظيفة هذه الأمكنة في قسمي القصة فهي وظيفة مرتبطة بعلاقة الشخصية الرئيسة بها. أهم هذه الأمكنة:
*المخبأ الذي اختبأ به في القسمين معا ، وهو مكان إقامة مؤقت بالنسبة لعبد النور، يوفر له الحماية من أعدائه. وهذا المخبأ هو في الأصل دار لأناس آخرين. من حوّل الدار من وظيفتها الأصلية أنها دار سكن واستقرار دائم لأصحابها إلى مكان للاختباء والاحتماء من الغير؟ إنه اللاجئ الفارّ من عقاب الخليفة.
*المصلى هو في الأصل مكان عبادة، يقول الله تعالى: "وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا" (الجن، الآية: 18).
وهو كذلك بالنسبة لعبد النور، فهو مكان يؤدي فيه صلواته ويتواصل فيه مع خالقه من خلال الذكر وقراءة القرآن، ولم يخرج به عن وظيفته هذه إلا مرتادوه من الناس وهم المجاورون له والذين وصفوا في القصة بأنهم "عرب" . فقد جعلوا منه مكانا لسمرهم وتجاذب أطراف الحديث فيه مما يدل على جهلهم بالوظيفة الرئيسة لهذا المكان، يقول السارد:"والقوم عرب، وكانوا يفيضون في الحديث، ويذكرون من الشعر الشاهد والمثل، ومن الخبر الأيام والمقامات..".
وما تأكيده على عروبة القوم إلا رغبة منه في الإشارة إلى ما عرف عن العرب من افتتان بجميل القول نظما أو نثرا ومن افتخار بالبطولة والشجاعة وأمجاد الماضي البعيد.
- " معجم مصطلحات الأدب الإسلامي " ص 153[1]
[2] - Henri MITTERAND : Le Discours du Roman, p : 194.
قراءة ممتعة . 📖

